إسرائيل، وإن تجاوزنا الزعم بأنها دولة، هي من الناحية الفنية والسياسية والعلمية والأخلاقية، ليست كذلك. من الصعب القول: إسرائيل تمثل الهوية الوطنية لـ «شعبها»، تعكس حقه الأصيل في تقرير مصيره. بالمناسبة: قانون القومية الأخير يجعل حق تقرير المصير لليهود فقط، بينما ما يزيد على ٣٠٪ من «مواطني» إسرائيل عرب! على أي حال: عرب ٤٨ الفلسطينيون، باختلاف طوائفهم، لا يرفضون الهوية الإسرائيلية، فحسب... بل يتحدون واقع وجود إسرائيل نفسها على أرضهم. أيضاً: هناك يهود يتحدون شرعية وجود إسرائيل نفسها، على أسس دينية وقومية وثقافية.
لا توجد دولة في العالم، هناك نزاع إقليمي على أرضها، مثل إسرائيل. إسرائيل، في حقيقة الأمر، كيانٌ غاصبٌ لقومٍ أتوا من خارج فلسطين، ليستعمروا أرضاً لشعب (الفلسطينيون) ترتبط جذوره التاريخية والثقافية والإنسانية بأرض فلسطين. حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، هناك دولٌ في أوروبا الغربية نفسها، مثل: إسبانيا واليونان والفاتيكان لم تكن تعترف بإسرائيل. جميع دول أفريقيا والمعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي والصين.. وكثيرٌ من دول الهند الصينية وأمريكا اللاتينية، لم تكن تعترف بإسرائيل. حتى عندما نجحت إسرائيل بتوسيع رقعة إقليمها، بعد حرب يونيه ١٩٦٧، لم تتمكن من فرض واقع هذا التوسع الإقليمي الجديد لإقليمها، المثير للجدل أصلاً، فحسب... بل إنها فشلت في الاحتفاظ بالأراضي العربية، وأجبرت عن التخلي عن معظمها.. وتواجه صعوبات جغرافية وإنسانية وسياسية وقانونية ودولية، في الاحتفاظ بما بقي منها تحت احتلالها.
هذا التعقيد في عُنْصُرَي السكان والإقليم، اللذين يمثلان الجغرافية السياسية، لأي دولة، ببعديه التضاريسي والإنساني، ينعكس على العنصر الثالث من عناصر الدولة (الحكومة). مهما قيل عن ديمقراطية النظام السياسي الإسرائيلي، إلا أن أقل ما يمكن أن يُقال عنه بأنه نظام غير مستقر، هذا إذا ما تجاوزنا معضلة خلفية النظام التمثيلية (العرب ٣٠٪ من السكان لهم ١٥ نائباً في الكنيست من بين ١٢٠).. وإذا ما غَضّينا الطرف، عن سُبَّةِ العنصرية المتأصلة فيه. مؤخراً: نادراً ما كانت تحكم إسرائيل حكومة قوية تحظى بأغلبية حزبية حصرية في الكنيست.. ونادراً ما تبقى حكومة ائتلافية في إسرائيل المدة المحددة لها دستورياً. بينما تتفادى الأحزاب نصاب خوض الانتخابات نجدها تدخل في تكتلات، التي سرعان ما تنفض عند تشكيل الحكومات.
في غياب توفر عناصر الدول الرئيسية، يُعزى وجود إسرائيل لعاملين أساسيين: المتغير الخارجي.. وإمكانات الردع التي تمتلكها. الغرب، وإن استطاع التغلب على المسألة اليهودية في مجتمعاته، بقيام إسرائيل، فإن تكلفة ذلك، ثبت أنها باهظةٌ جداً عليه، من الناحية السياسية والأخلاقية والاقتصادية. سيأتي يوم على الغرب لينوء بحمل إسرائيل ويتخلى عنها... هذا بالإضافة إلى استمرار المسألة اليهودية، في مجتمعات الغرب.
ثم إن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار اعتماداً على قدرة الردع المُكْلِفَةَ، التي تمتلكها. قدرة إسرائيل الإستراتيجية، بدأت تفقد عامل الردع لديها، شيئاً فشيئاً. لم تنعم إسرائيل بالسلام منذ إنشائها.. ولم تقو على الاحتفاظ بالأراضي العربية، التي تحتلها.. ولم تستطع أن تتخلص من المسألة الفلسطينية داخلها، ولا خارجها... بل إنها لم تتمكن من ردع الفلسطينيين من مواصلة تحديهم لوجودها. حتى أنها لم تتمكن من مواجهة جيب فلسطيني في خاصرتها الغربية، لا يتعدى بضعة كيلو مترات مربعة، رغم الحصار ومحاولات الغزو العسكري المتكررة. رغم أن إسرائيل أُضْطُرت للانسحاب من قطاع غزة، إلا أن القطاع يأبى إلا ويُمَثِلَ لإسرائيل شوكة أمنية وسياسية وأخلاقية وإستراتيجية، لا تسبب لها إزعاجاً فحسب، بل ألماً مبرحاً.. وهاجساً إستراتيجياً مقلقاً.. وشرعية سياسية منعدمة، وحملاً أخلاقياً لا يُطاق.
يوم الإثنين قبل الماضي، فشلت قوة إسرائيلية نوعية متسللة تحت جنح الظلام من القيام بمهمتها في قطاع غزة، تصدى لها فتية فلسطينيون، دون العشرين من أعمارهم. تمكن هؤلاء الفتية من قتل ضابط إسرائيلي كبير من النخبة وآخر، مما أجبر حكومة نتنياهو مرغمة تتوسل العودة لحالة التهدئة. لم تكتفِ المقاومة في غزة بهذا الانتصار المعنوي والنوعي الكبير، فحسب... بل تحدياً لإمكانات الردع الإسرائيلية اشتبكت على طول الجبهة الشمالية والشرقية والجنوبية وأمطرت المستوطنات الإسرائيلية بمئات من الصواريخ، التي أجبرت عشرات الألوف من المستوطنين الصهاينة قضاء ساعات في المخابئ وسط الظلام الدامس. أحد هذه الصواريخ أصاب حافلة جنود إسرائيلية، إصابةً مباشرةً شاهدها العالم بأسره. هذا بالإضافة إلى مسيرات العودة السلمية، التي تواصل فعاليتها كل جمعة، على حدود القطاع مع إسرائيل. باختصار، استراتيجياً: بهذا التحدي لقوة الردع الإسرائيلية، أضحى قطاع غزة هو المحاصِر لإسرائيل.. وليست إسرائيل هي المحاصِرة لقطاع غزة.
إسرائيل، بعيداً عن الجدل التاريخي والأخلاقي لواقع وجودها، لا تتوفر لديها عناصر الدولة.. ولا تمتلك قوة ردع إستراتيجية لفرض واقع وجودها العارض على المنطقة.
إسرائيل مشروع دولة فاشل، زائل لا محالة... حتمية تاريخية.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com
لا توجد دولة في العالم، هناك نزاع إقليمي على أرضها، مثل إسرائيل. إسرائيل، في حقيقة الأمر، كيانٌ غاصبٌ لقومٍ أتوا من خارج فلسطين، ليستعمروا أرضاً لشعب (الفلسطينيون) ترتبط جذوره التاريخية والثقافية والإنسانية بأرض فلسطين. حتى نهاية سبعينات القرن الماضي، هناك دولٌ في أوروبا الغربية نفسها، مثل: إسبانيا واليونان والفاتيكان لم تكن تعترف بإسرائيل. جميع دول أفريقيا والمعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي والصين.. وكثيرٌ من دول الهند الصينية وأمريكا اللاتينية، لم تكن تعترف بإسرائيل. حتى عندما نجحت إسرائيل بتوسيع رقعة إقليمها، بعد حرب يونيه ١٩٦٧، لم تتمكن من فرض واقع هذا التوسع الإقليمي الجديد لإقليمها، المثير للجدل أصلاً، فحسب... بل إنها فشلت في الاحتفاظ بالأراضي العربية، وأجبرت عن التخلي عن معظمها.. وتواجه صعوبات جغرافية وإنسانية وسياسية وقانونية ودولية، في الاحتفاظ بما بقي منها تحت احتلالها.
هذا التعقيد في عُنْصُرَي السكان والإقليم، اللذين يمثلان الجغرافية السياسية، لأي دولة، ببعديه التضاريسي والإنساني، ينعكس على العنصر الثالث من عناصر الدولة (الحكومة). مهما قيل عن ديمقراطية النظام السياسي الإسرائيلي، إلا أن أقل ما يمكن أن يُقال عنه بأنه نظام غير مستقر، هذا إذا ما تجاوزنا معضلة خلفية النظام التمثيلية (العرب ٣٠٪ من السكان لهم ١٥ نائباً في الكنيست من بين ١٢٠).. وإذا ما غَضّينا الطرف، عن سُبَّةِ العنصرية المتأصلة فيه. مؤخراً: نادراً ما كانت تحكم إسرائيل حكومة قوية تحظى بأغلبية حزبية حصرية في الكنيست.. ونادراً ما تبقى حكومة ائتلافية في إسرائيل المدة المحددة لها دستورياً. بينما تتفادى الأحزاب نصاب خوض الانتخابات نجدها تدخل في تكتلات، التي سرعان ما تنفض عند تشكيل الحكومات.
في غياب توفر عناصر الدول الرئيسية، يُعزى وجود إسرائيل لعاملين أساسيين: المتغير الخارجي.. وإمكانات الردع التي تمتلكها. الغرب، وإن استطاع التغلب على المسألة اليهودية في مجتمعاته، بقيام إسرائيل، فإن تكلفة ذلك، ثبت أنها باهظةٌ جداً عليه، من الناحية السياسية والأخلاقية والاقتصادية. سيأتي يوم على الغرب لينوء بحمل إسرائيل ويتخلى عنها... هذا بالإضافة إلى استمرار المسألة اليهودية، في مجتمعات الغرب.
ثم إن إسرائيل لا تستطيع الاستمرار اعتماداً على قدرة الردع المُكْلِفَةَ، التي تمتلكها. قدرة إسرائيل الإستراتيجية، بدأت تفقد عامل الردع لديها، شيئاً فشيئاً. لم تنعم إسرائيل بالسلام منذ إنشائها.. ولم تقو على الاحتفاظ بالأراضي العربية، التي تحتلها.. ولم تستطع أن تتخلص من المسألة الفلسطينية داخلها، ولا خارجها... بل إنها لم تتمكن من ردع الفلسطينيين من مواصلة تحديهم لوجودها. حتى أنها لم تتمكن من مواجهة جيب فلسطيني في خاصرتها الغربية، لا يتعدى بضعة كيلو مترات مربعة، رغم الحصار ومحاولات الغزو العسكري المتكررة. رغم أن إسرائيل أُضْطُرت للانسحاب من قطاع غزة، إلا أن القطاع يأبى إلا ويُمَثِلَ لإسرائيل شوكة أمنية وسياسية وأخلاقية وإستراتيجية، لا تسبب لها إزعاجاً فحسب، بل ألماً مبرحاً.. وهاجساً إستراتيجياً مقلقاً.. وشرعية سياسية منعدمة، وحملاً أخلاقياً لا يُطاق.
يوم الإثنين قبل الماضي، فشلت قوة إسرائيلية نوعية متسللة تحت جنح الظلام من القيام بمهمتها في قطاع غزة، تصدى لها فتية فلسطينيون، دون العشرين من أعمارهم. تمكن هؤلاء الفتية من قتل ضابط إسرائيلي كبير من النخبة وآخر، مما أجبر حكومة نتنياهو مرغمة تتوسل العودة لحالة التهدئة. لم تكتفِ المقاومة في غزة بهذا الانتصار المعنوي والنوعي الكبير، فحسب... بل تحدياً لإمكانات الردع الإسرائيلية اشتبكت على طول الجبهة الشمالية والشرقية والجنوبية وأمطرت المستوطنات الإسرائيلية بمئات من الصواريخ، التي أجبرت عشرات الألوف من المستوطنين الصهاينة قضاء ساعات في المخابئ وسط الظلام الدامس. أحد هذه الصواريخ أصاب حافلة جنود إسرائيلية، إصابةً مباشرةً شاهدها العالم بأسره. هذا بالإضافة إلى مسيرات العودة السلمية، التي تواصل فعاليتها كل جمعة، على حدود القطاع مع إسرائيل. باختصار، استراتيجياً: بهذا التحدي لقوة الردع الإسرائيلية، أضحى قطاع غزة هو المحاصِر لإسرائيل.. وليست إسرائيل هي المحاصِرة لقطاع غزة.
إسرائيل، بعيداً عن الجدل التاريخي والأخلاقي لواقع وجودها، لا تتوفر لديها عناصر الدولة.. ولا تمتلك قوة ردع إستراتيجية لفرض واقع وجودها العارض على المنطقة.
إسرائيل مشروع دولة فاشل، زائل لا محالة... حتمية تاريخية.
* كاتب سعودي
talalbannan@icloud.com